سلسلة مقالات عن الحداثه وما بعد الحداثه ( ما لها وما عليها) وهل لهذا أثر على الأدب بصنوفه؟ (المقال الأول) بقلم د/ طــــارق رضـــــــــــوان
لا شك أن هناك نظريات كثيرة في التيار الجديد المسمى الحداثه وما بعد الحداثة، خاصة وأنه يمثل موضوع الساعة الآن في الأوساط الثقافية الغربية، ولكننا لا نستطيع أن نتوقف، في هذه العجالة،عند هذه النظريات جميعها. فأرجو أن يتسع صدركم للبحث والاضطلاع فى هذا الموضوع لأهميته. وسيتم نشره على مراحل...
أولا ما المقصود بالحداثه؟
الحداثة مشروع فكري تقدّمي يعتمد على العقلانية في تفسير الكون وما يحدث فيه بعيداً عن الخرافات والأوهام كما يعتمد على اللحظة الراهنة والتجربة الإنسانية الآنية متجرّداً من سلطة الماضي وكل أشكال السلطة مع محاولة الفصل بين الثابت والمتحوّل .
وقد نشأت الحداثة لسببين رئيسين كما أرى :
الأمر الأول : الطبيعة البشرية الذكية وذات الإحساس بمسؤولية التغيير والتمرّد على كل ما يناقض العقل والتي تحتاج بشكل ماسٍّ للتطوير والحرية والخروج عن الجمود وتحقيق الفردية والحرية والسعادة والسيطرة على الطبيعة.
الأمر الثاني : ردة فعل المجتمع الغربي لما حدث من نظرة متحجّرة ورؤية جامدة بالنسبة للكنيسة مما أدّى إلى الخروج عليها والاعتماد على العلم والعقل والحرية والتحرّر من السلطة الدينية الجامدة .
أما عن عقلانيتها التي جاءت تبشّر بها من خلال الإيمان بثبات المعنى ووجود ثوابت تحكم المتغيّرات وأن العقل والعلم طريق السعادة فهي أفكار تفتقد صفة العقلانية فلا وجود لثبات المعنى في واقع الحياة ولا يوجد ثوابت أو متغيرّات يمكن أن يتفق عليها العقلاء فالثابت قد يكون متغيراً عند فلان ما وبالنسبة للآخر فعنده عكس ذلك ،أما القول بأن العقل طريق السعادة فهو وهم كبير ، بل إن العقل والإبداع والفكر كثيراً ما يكون سبباً لشقاء الإنسان ومتاعبه بل وقد يكون – كما هو حادث بالفعل – سبباً لحروبه وتناحره وسيطرته واستغلاله .
ومع أن الحداثة قدّمت تطوّراً في المجال العلمي والتقني والفكري ودعت إلى التجدّد والتطوّر وهي أمور لا يختلف على أهميتها أحد ، كما نادت بالحرية والمساواة والديمقراطية والإبداع وإعادة النظر في القديم والسعي لتحقيق سعادة الإنسان وهي مساعٍ عظيمة لا يمكن أن يرفض حدوثها على أرض الواقع أحد ، لكنّها – للأسف – لم تستطع أن تحقّق وعودها على الرغم مما حقّقته من إنجازات ، لذا قال الفيلسوف الألماني المعاصر : ( هابرماس) : ” الحداثة مشروع لم ينجز بعد ” . فقد وصل الإنسان إلى القمر واستطاع أن يحقّق تقدّماً علمياً في الطب والصحة والصناعة ومختلف العلوم إلا أنه مع كل هذا التقدّم فشل في منع حدوث الكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وأعاصير ، ولم يفلح في منع المشاكل الإنسانية والنزاعات العرقية والظلم والاستبداد والحروب النازية و الفاشية والنووية والهيدروجينية والاحتلال وسيطرة الدول الكبرى على الدول النامية ونهب خيراتها والتدخّل في شؤونها .
** إذاً، ماهو مفهوم مابعد الحداثة؟ وماسياقها التاريخي والإبستمولوجي(المعرفي)؟ وماهي مرتكزات هذا المفهوم ومكوناته النظرية والتطبيقية والمنهجية؟ وماهي أهم النظريات التي رافقت مابعد الحداثة؟ وما هي إيجابيات ما بعد الحداثة وسلبياتها؟
تمتد فترة مابعد الحداثة (Post modernism) من سنة 1970م إلى سنة 1990م، ويقصد بها النظريات والتيارات والمدارس الفلسفية والفكرية والأدبية والنقدية والفنية التي ظهرت ما بعد الحداثة البنيوية والسيميائية واللسانية. وقد جاءت مابعد الحداثة لتحطيم المقولات المركزية التي هيمنت قديما وحديثا على الفكر الغربي، كاللغة، والهوية، والأصل، والصوت، والعقل...وقد استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف والتغريب، وتقترن مابعد الحداثة بفلسفة الفوضى والعدمية والتفكيك واللامعنى واللانظام. وتتميز نظريات ما بعد الحداثة عن الحداثة السابقة بقوة التحرر من قيود التمركز، وممارسة كتابة الاختلاف والهدم والتشريح ، والانفتاح على الغير عبر الحوار والتفاعل والتناص، ومحاربة لغة البنية والانغلاق والانطواء، مع فضح المؤسسات الغربية المهيمنة، والاهتمام بالمدنس والهامش والغريب والمتخيل والمختلف، والعناية بالعرق، واللون، والجنس، والأنوثة، وخطاب مابعد الاستعمار....
لم تقض ما بعد الحداثة على قضايا اجتماعية إشكالية مثل الاستغلال والقهر والبؤس التي ظهرت مع مجتمعات الحداثة. وكل ما فعلته هو تجاهل وجود هذه المشكلات تماما والتظاهر بأن كل شيء على ما يرام. لقد استعاضت عن الواقع وتعقيداته وقضاياه الإشكالية بفيض من الصور البراقة المبهرة والترويج لمفاهيم التشتت والسطحية والسرعة
وما بعد الحداثة هي منهج فكري ينظر للإنسان على أنه جزء من الطبيعة ومتأثّر بمحيطه الاجتماعي وتنظر للعقل على أنه متحيّز فلا تؤمن بالموضوعية ولا تؤمن بالحرية المطلقة وتدعو لكسر حاجز النخبة الذي قيدت الحداثة به نفسها كما قامت بإلغاء الثابت والمتحوّل والعقلانية وألغت أيضاً الثنائيات الضدية القسرية في الفكر الحداثي : ( المهم / غير المهم ) ( الأصل / الفرع ) ( الثابت / المتحوّل ) . وآمنت بالفوضى والتشتت وعدم الهدفية وعدم وجود الحرية والاختيار للفرد لأنه محكوم ببيئة وثقافة يعيش فيها واعتبرت الإنسان ترساً في آلة اجتماعية وهي بهذا جاءت تنسف بناء الحداثة لتضع بناء آخر مكانه .
وهناك من الباحثين والدارسين من يربط مابعد الحداثة بفلسفة التفكيك والتقويض، وتحطيم المقولات المركزية الكبرى التي هيمنت على الثقافة الغربية من أفلاطون إلى يومنا هذا. وفي هذا الصدد، يقول دافيد كارتر (David karter) في كتابه:" النظرية الأدبية":" وتعبر هذه المواقف من مابعد الحداثة عن موقف متشكك بشكل جوهري لجميع المعارف البشرية، وقد أثرت هذه المواقف على العديد من التخصصات الأكاديمية وميادين النشاط الإنساني(من علم الاجتماع إلى القانون والدراسات الثقافية، من بين الميادين الأخرى). وبالنسبة للكثيرين تعد مابعد الحداثة عدمية على نحو خطير، فهي تقوض أي معنى للنظام والسيطرة المركزية للتجربة. فلا العالم ولا الذات لهما وحدة متماسكة".
2- السياق الذي ظهرت فيه مابعد الحداثة:
ارتبطت مابعد الحداثة في بعدها التاريخي والمرجعي والسياقي بتطور الرأسمالية الغربية ما بعد الحداثية اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا، وثقافيا. كما ارتبطت ارتباطا وثيقا بتطور وسائل الإعلام.. كما استهدفت مابعد الحداثة تقويض الفلسفة الغربية، وتعرية المؤسسات الرأسمالية التي تتحكم في العالم، وتحتكر وسائل الإنتاج، وتمتلك المعرفة العلمية. كما عملت مابعد الحداثة على انتقاد المنطق عبر آليات التشكيك والتشتيت والتشريح والتفكيك.
هذا، وقد ظهرت مابعد الحداثة في ظروف سياسية معقدة ، وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخاصة في سياق الحرب الباردة، وانتشار التسلح النووي، وإعلان ميلاد حقوق الإنسان، وظهور مسرح اللامعقول( صمويل بيكيت، وأداموف، ويونيسكو، وأرابال…)، وظهور الفلسفات اللاعقلانية كالسريالية، والوجودية، والفرويدية، والعبثية ، والعدمية… وقد كانت التفكيكية معبرا رئيسا للانتقال من مرحلة الحداثة إلى مابعد الحداثة. ومن ثم، فقد كانت مابعد الحداثة مفهوما مناقضا ومدلولا مضادا للحداثة. ولذلك، حاربت العقل والعقلانية، ودعت إلى خلق أساطير جديدة تتناسب مع مفاهيمها التي ترفض النماذج المتعالية، وتضع محلها الضرورات الروحية ، وضرورة قبول التغيير المستمر، وتبجيل اللحظة الحاضرة المعاشة. كما رفضت الفصل بين الحياة والفن، حتى أدب مابعد الحداثة ونظرياتها تأبى التأويل، وتحارب المعاني الثابتة.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك فى موضوعاتنا .