التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الوحشُ (قصةٌ قصيرةٌ) أحمد عبد السلام_مصر

الوحشُ (قصةٌ قصيرةٌ)
ولو ترى ذا القناع الأملس وهو يزحف متمسحًا بوجه صاحبنا النائم، فإذا بالأخير وقد قفز صارخًا من الرعب، وولى مدبرًا ولم يعقب، حتى بلغ حدود المعسكر المجاور، ولم يمنعه من مواصلة العدْوِ، إلا صوت الحرس يهدده بإطلاق النار، إنْ لم يثبت مكانه، ويرفع يديه عاليًا.
في إحدى ليالي ديسمبر المظلمة أوائل السبعينات، والسماء حالكة إلا من بضع نجوم متناثرة؛ أطلت خافتة على استحياء، فبدت كعيون كائنات فضائية بعيدة، تتلصص علينا. وكنا قد انتهينا لتونا من خدمتنا الأولى (برنجي)، في معسكرنا الضارب في أعماق الصحراء.
جافانا النوم لشدة الحر، وانتشار الحشرات، وضيق المكان. كنا تسعة رهط في ملجأ واحد، من أماكن شتى، وأعمار متباينة، صهرتنا الخدمة العسكرية في بوتقة واحدة، وامتدت بنا الصحبة فترة الحرب سنين عددًا، فمنا من يأس من العودة مرة أخرى للحياة المدنية، ومنا من ظل يداعبه الأمل، ويتعلق بأهداب المنى؛ تعلق الغريق بالقشة.
قررنا قتلَ الوقت بالثرثرة، وتولى أكبرنا سنًّا ورتبة إدارة دفة الحديث، تشعب بنا الكلام مراوحًا بين الجد والهزل، والطرائف والأحاجي، حتى تطرقنا إلى السحر، والكهانة، والعرافة، وحيل الدجالين والمشعوذين للعب بعقول العوام، واستلابهم أموالهم.
فجأة سأل أحدنا وعلى وجهه أمارات الجد: ما رأيكم بقصص المردة؛ ذوي أرجل الماعز، وجنيّ المصباح؛ الذي إذا فركته خرج ضاحكًا ضحكة مجلجلة؛ تكاد تقتلك من الرعب، فلبَّى لك ثلاث أمانيّ ولا يزيد، والأرانب التي تظهر للبعض ليلًا، فيحثوها في حجره، حتى إذا بلغ منزله لم يجدها شيئًا، وعروس البحر التي تتراءى للبحارة؛ فتغويهم باتباعها، والنداهة التي تقود من تناديه؛ مسحورًا لبه، فلا يفيق إلا وقد ألقته في اليم؟
تولى كبيرنا الرد، ففند كل هذه الترهات، وردها إلى الخيال الواسع، والموروث الشعبي من الخرافات، والخزعبلات، ساخرًا من عقولٍ؛ لا زالت تؤمن بها، وغيرنا قد وصل القمر، وغزا المريخ بالعلم والفكر.
تساءل آخر عن حقيقة مصاصي الدماء، والمستذئبين، والموتى الأحياء (الزومبي)، وكان الرد مباغتًا: إنها خيالات؛ لكنْ لها أصلٌ علمي!
فغر بعضنا فاه دهشة، وصفق آخرون تعجبًا، فاسترسل صاحبنا في حماس: عثر العلماء على نوع من الخفافيش؛ يمتص دماء ضحاياه، ويتغذى عليها. كما وجدوا نوعًا من العناكب؛ يقوم بحقن حشرة الصرصور، بسم بطيء المفعول، يقتله على مدى عدة أيام، يكون خلالها فاقدًا لكل مظاهر الحياة، إلا من حركة بطيئة غير معتادة، تدفعه غريزة حب البقاء للبحث عن الطعام، ثم تضع العنكبوت بيضها في جسد الضحية، فيفقس متزامنًا مع موت الصرصور، ليكون أول وجبة طازجة للصغار، وبالطبع لا يؤثر فيها السم.
طال بنا الحديث، وأوشك الليل أن ينصرم، فقمنا ننشد بعض الراحة؛ استعدادًا ليوم جديد شاق. تسلل أحدنا تحت جنح الظلام، فعمد إلى قناع الكيما فلبسه، ( وهو قناع واقٍ من الغازات، أملس، يغطى الوجه والرأس، وبه خرطوم للتنفس، متصل بأنبوبة أكسجين صغيرة تحمل على الظهر) ثم تمهل الخبيثُ، حتى إذا تيقن من نوم كبيرنا، وارتفاع غطيطه، مشى على أربع كحيوان خرافي بشع، وراح يتمسح بالمسكين، الذي هبَّ مذعورًا، لم يلتفت، وظل يجري لا يلوي على شيء، تلاحقه ضحكاتنا؛ التي دفعنا ثمنها في طابور الصباح.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلة فى أعماق شاعر : الشاعر إيليا أبو ماضى بقلم محسن الوردانى

الشاعر اللبنانى إيليا أبو ماضى أحد أبرز شعراء المهجر فى القرن العشرين جاء إلى مصر عام 1902 بهدف التجارة والتقى بالكاتب اللبنانى انطوان جميل ودعاه انطوان للكتابة فى مجلة الزهور فبدأ فى نشر قصائد بالمجلة . صدر له عام 1911 ديوان      تذكار الماضى هاجر عام 1912 الولايات المتحدة وأسس الرابطة القلمية  مع جبران خليل جبران وميخائيل نعمه توفى سنة 1957 يقول ايليا أبو ماضى فى قصيدته ليس السر في السنوات قل للذي أحصى السنين مفاخرا     يا صاح ليس السرّ في السنوات لكنه في المرء كيف يعيشها     في يقظة ، أم في عميق سبات قم عدّ آلاف السنين على الحصى     أتعدّ شبة فضيلة لحصاة؟ خير من الفلوات ، لا حدّ لها ،     روض أغنّ يقاس بالخطوات كن زهرة ، أو نغمة في زهرة،     فالمجد للأزهار والنغمات تمشي الشهور على الورود ضحوكة     وتنام في الأشواك مكتئبات وتموت ذي للعقم قبل مماتها     وتعيش تلك الدهر في ساعات تحصى على أهل الحياة دقائق     والدهر لا يحصى على الأموات ألعمر ، إلاّ بالمآثر، فارغ                       كالبيت مهجورا وكالمومات جعل السنين مجيدة وجميلة     ما في مطاويها من الحسنات وهنا يتحدث إيليا ابو ماضى

ترجمة تلخيص مسرحية تاجر البندقيه * مع تحليل نقدى لابعاد المسرحيه بقلم د/ طارق رضوان

* ترجمة تلخيص مسرحية تاجر البندقيه * مع تحليل نقدى لابعاد المسرحيه بقلم د/ طارق رضوان في مدينة فينيسا "البندقية" بإيطاليا، كان اليهودي الجشع"شيلوك" قد جمع ثروة طائلة من المال الحرام..فقد كان يقرض الناس بالربا الفاحش..وكانت مدينة البندقية في ذلك الوقت من أشهر المدن التجارية، ويعيش فيها تجار كثيرون من المسيحيين..من بينهم تاجر شاب اسمه"انطونيو". كان "انطونيو"ذا قلب طيب كريم..وكان لا يبخل على كل من يلجأ إليه للاقتراض دون ان يحصل من المقترض على ربا او فائدة.لذلك فقد كان اليهودي "شيلوك"يكرهه ويضمر له الشر بالرغم مما كان بيديه له من نفاق واحترام مفتعل. وفي اي مكان كان يلتقي فيه "انطونيو"و"شيلوك"كان "انطونيو"يعنفه ويوبخه، بل ويبصق عليه ويتهمه بقسوة القلب والاستغلال.وكان اليهودي يتحمل هذه المهانه، وفي الوقت نفسه كان يتحين أيه فرصة تسنح له للانتقام من "انطونيو". وكان جميع اهالي "البندقية"يحبون "انطونيو" ويحترمونه لما عرف عنه من كرم وشجاعة ،كما كان له أصدقاء كثي

قصيدة (الكِرْش.. بين مدح وذمّ!)

• الكِرْشُ مفخرةُ الرجالِ، سَمَوْا به ** وتوسَّدوه، ووسَّدوه عيالا • خِلٌّ وفيٌّ لا يخونُ خليلَهُ ** في الدرب تُبصِرُ صورةً وخيالا = = = = = - الكِرْشُ شيءٌ يا صديقُ مُقزِّزٌ ** وصف البهائم، لا تكنْ دجَّالا! - وكـ "واو" عمرٍو للصديق ملازمٌ ** قد أورَثَ الخِلَّ الوفيَّ ملالا! = = = = = • يا صاح ِ، إنّي قد رضيتُ مشورةً ** إنّ المشورة ليس تعدلُ مالا • مَن للعيال مُداعِبٌ ومُؤانِسٌ ** مَن غيرُه سيُأرجِحُ الأطفالا؟ • مَن لـ "المدام" إذا الوسادُ تحجَّرتْ ** يحنو عليها خِفَّةً ودلالا؟ • مَن للطعام إذا ملأتم سُفْرةً ** حمَلَ البقيَّةَ فوقه، ما مالا؟ • مَن تستعينُ به لإطرابِ الألى ** غنَّوْا، وطبَّلَ راقصًا ميَّالا؟ = = = = = - أضحكتني؛ إذ كان قولُك ماجنًا ** وظهرتَ لي مُتهتِّكًا مُحتالا! - لكنَّه عند التحقُّق عائقٌ ** وقتَ الجهاد يُقهقِرُ الأبطالا - إنَّ النحافة في الوغى محمودةٌ ** والكِرْشُ ذُمَّ حقيقةً ومقالا - إذ صاحبُ الكرش ِ العظيم ِ لُعابُه ** إنْ أبصرَ الأكلَ المُنمَّقَ سالا = = = = = • هَبْ أنَّ ما حدَّثتني به واقعٌ ** ما ضرَّه لو