التخطي إلى المحتوى الرئيسي

القاص العراقي عبد الكريم الساعدي يكتب آخر المحطّات

القاص العراقي 
عبد الكريم الساعدي 
يكتب
آخر المحطّات
بعد عناء طويل، أقتطف تذكرة السفر فرحاً، أحزم حقائب شوقي لامرأة لم أرها من قبل، أحتمي بأحلام اليقظة, تسابقني الخطوات، أشاكس ضوءاً مندلقاً من بين ثنايا العتمة، يتلو بعض انتظاري:
- متى يأتي القطار؟.
- سيأتي عن قريب.
كانت عيناي معلّقتين بعقارب الساعة، منتظراً قدومه وسط ضجيج المسافرين، يخالني آخيت متاهات الدروب، مذ أتيت هنا، متخبطاً أسير على ذات الدرب، خطوة خطوة. فجأة تراني أتطهّر بدمي عند لحظة غياب، أتبعثر معتّقاً بالندم، تائهاً في محطة يلفّها العويل ودخان كثيف ورائحة شواء، قابع فيها صراخ ودوي زلزال عنيف، قدماي تطويان أرصفة الذعر، ذراعاي معلّقتان في فضاء مغلق، أبحث عن نافذة، أتنفس جحيم احتراقي، ظلّي يهرب إلى جهة قصية، أهرول إلى منعطف التذكّر، أنشد حكاية قديمة تبوح بجرح ما زال فاغراً فاه؛ لعلّي أرتّب ما تبقّى من ثياب الأماني، أعبر ضفة المحطة، أقتفي أثري، عيناي تخطّان حلماً يعزف تراتيل الأمس، أمضي على عجل صوب البدايات، كان الفجر يتنفس براءتي؛ وأنا أحبو بين بساتين النخيل، مرايا ( نهير الليل) تداعب خيالي، أخلع قماطي، أرتدي ماءه، أبحث عن سرّ وجودي. خالي الذي رأيته في أول المحطات عند طرف قريتنا البائسة، يهتف بالجموع أملاً، دثّرني بهمسه:
- أراك تتبع خطى الحرائق، عد إلى قريتك فما زال الوقت باكراً.
آنسته وهجاً في حلكة الليالي، ألوذ بكلماته زهواً، مرتدياً ظلّ خطواته، أمضي منتشياً بعبقي السومري، أحطّ الرحال على ضفاف السواقي، وتراب الحقول، خضرة وماء، طيور البط والخضيري وأم سكة، حكايات تنبلج منها رائحة التبغ ورنين دلّة القهوة، كانت أنفاسي تدغدغ سعف النخيل، تشدو غناءً بقصائد السياب، فرحاً أغازل شناشيل ابنت الجلبي، أهطل حبوراً على شط العرب، أنزف مطراً. وحين أزهرت الأرض جفافاً في غفلة منّا، انتصبت الأحزان جسراً يحملني إلى المدن البعيدة، غريباً أهبط هناك، خلف السدة الترابية، شرق العتمة، والقلب يخفق شوقاً لظلّ شجيرات الحناء، لظلّ أبي، ودثار أمي. كانت المدن رقعة شطرنج بلا ملوك، وكنّا بيادق لا لون لها، تحركنا أيد خفية، نسقط بين قلعة وفيل، تسحقنا سنابك الخيل، نطعن من أمام ومن خلف، امتنعنا عن اللعب، ولم نتحرك فوقها؛ فكانت المنافي رقعتنا، وزنازين المواجع تأسر صوتنا. أوقدوا لنا نار الحروب، لم تكن برداً وسلاماً، كانت جحيماً وخراباً، لثمنا ضرع الموت وسنوات التيه، نلهث خلف أحلام من سراب، أحلام بعرض السموات والأرض، نهذي بملامح تحلم بالفناء؛ فتعمّ الظلمة، ولم نسمع آذاناً للفجر... هكذا تولج محطة قلب أخرى. أصلب على أعواد الدهشة، أتساءل،
" لماذا يتّشح القلب بالشوق والحنين لتلك المحطات؟ ولماذا تنتصب الآن أمامي؟. إنّه لأمر عجيب، من أيقظ رقاد السنين؟ "
أنفاسي تتوقف عند نداء ينطلق من أقصى المحطة،
"جاء القطار".
المسافرون لملموا حقائبهم، عيناي تعانقان ظلّ شبحين يهبطان من علو، يرتديان ثياباً من ضباب ناصع البياض، تلفّني موجة هلع، أرتبك، أرتجف رعباً، أبحث عن منفذ، ولو ثقب إبرة، أضلاعي تطأها أقدام المسافرين، أحاول أن أتحسّس ساقيّ؛ كي أطلقهما تسابقان الريح، يصيبني الذعر، كنت بلا ذراعين، عيناي تحدّقان بي عن بعد، تغرقان في موجة دمع، يداي تلوحان لي بالوداع، المحطة بكامل ضجيجها تأفل في هباء الخطى، الأحلام، المحطات، تتهاوى، تتساقط، يصمت كلُّ شيء أمامي. لم يكن أمامي غير أن أتدثّر بآخر أنفاسي، تاركاً أشلائي وصرة أسفاري على رصيف مكتظّ بالنواح. ابتسمت لعقارب الساعة المعلّقة على بوابة المحطة...كان الموت صحواً

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلة فى أعماق شاعر : الشاعر إيليا أبو ماضى بقلم محسن الوردانى

الشاعر اللبنانى إيليا أبو ماضى أحد أبرز شعراء المهجر فى القرن العشرين جاء إلى مصر عام 1902 بهدف التجارة والتقى بالكاتب اللبنانى انطوان جميل ودعاه انطوان للكتابة فى مجلة الزهور فبدأ فى نشر قصائد بالمجلة . صدر له عام 1911 ديوان      تذكار الماضى هاجر عام 1912 الولايات المتحدة وأسس الرابطة القلمية  مع جبران خليل جبران وميخائيل نعمه توفى سنة 1957 يقول ايليا أبو ماضى فى قصيدته ليس السر في السنوات قل للذي أحصى السنين مفاخرا     يا صاح ليس السرّ في السنوات لكنه في المرء كيف يعيشها     في يقظة ، أم في عميق سبات قم عدّ آلاف السنين على الحصى     أتعدّ شبة فضيلة لحصاة؟ خير من الفلوات ، لا حدّ لها ،     روض أغنّ يقاس بالخطوات كن زهرة ، أو نغمة في زهرة،     فالمجد للأزهار والنغمات تمشي الشهور على الورود ضحوكة     وتنام في الأشواك مكتئبات وتموت ذي للعقم قبل مماتها     وتعيش تلك الدهر في ساعات تحصى على أهل الحياة دقائق     والدهر لا يحصى على الأموات ألعمر ، إلاّ بالمآثر، فارغ                       كالبيت مهجورا وكالمومات جعل السنين مجيدة وجميلة     ما في مطاويها من الحسنات وهنا يتحدث إيليا ابو ماضى

ترجمة تلخيص مسرحية تاجر البندقيه * مع تحليل نقدى لابعاد المسرحيه بقلم د/ طارق رضوان

* ترجمة تلخيص مسرحية تاجر البندقيه * مع تحليل نقدى لابعاد المسرحيه بقلم د/ طارق رضوان في مدينة فينيسا "البندقية" بإيطاليا، كان اليهودي الجشع"شيلوك" قد جمع ثروة طائلة من المال الحرام..فقد كان يقرض الناس بالربا الفاحش..وكانت مدينة البندقية في ذلك الوقت من أشهر المدن التجارية، ويعيش فيها تجار كثيرون من المسيحيين..من بينهم تاجر شاب اسمه"انطونيو". كان "انطونيو"ذا قلب طيب كريم..وكان لا يبخل على كل من يلجأ إليه للاقتراض دون ان يحصل من المقترض على ربا او فائدة.لذلك فقد كان اليهودي "شيلوك"يكرهه ويضمر له الشر بالرغم مما كان بيديه له من نفاق واحترام مفتعل. وفي اي مكان كان يلتقي فيه "انطونيو"و"شيلوك"كان "انطونيو"يعنفه ويوبخه، بل ويبصق عليه ويتهمه بقسوة القلب والاستغلال.وكان اليهودي يتحمل هذه المهانه، وفي الوقت نفسه كان يتحين أيه فرصة تسنح له للانتقام من "انطونيو". وكان جميع اهالي "البندقية"يحبون "انطونيو" ويحترمونه لما عرف عنه من كرم وشجاعة ،كما كان له أصدقاء كثي

قصيدة (الكِرْش.. بين مدح وذمّ!)

• الكِرْشُ مفخرةُ الرجالِ، سَمَوْا به ** وتوسَّدوه، ووسَّدوه عيالا • خِلٌّ وفيٌّ لا يخونُ خليلَهُ ** في الدرب تُبصِرُ صورةً وخيالا = = = = = - الكِرْشُ شيءٌ يا صديقُ مُقزِّزٌ ** وصف البهائم، لا تكنْ دجَّالا! - وكـ "واو" عمرٍو للصديق ملازمٌ ** قد أورَثَ الخِلَّ الوفيَّ ملالا! = = = = = • يا صاح ِ، إنّي قد رضيتُ مشورةً ** إنّ المشورة ليس تعدلُ مالا • مَن للعيال مُداعِبٌ ومُؤانِسٌ ** مَن غيرُه سيُأرجِحُ الأطفالا؟ • مَن لـ "المدام" إذا الوسادُ تحجَّرتْ ** يحنو عليها خِفَّةً ودلالا؟ • مَن للطعام إذا ملأتم سُفْرةً ** حمَلَ البقيَّةَ فوقه، ما مالا؟ • مَن تستعينُ به لإطرابِ الألى ** غنَّوْا، وطبَّلَ راقصًا ميَّالا؟ = = = = = - أضحكتني؛ إذ كان قولُك ماجنًا ** وظهرتَ لي مُتهتِّكًا مُحتالا! - لكنَّه عند التحقُّق عائقٌ ** وقتَ الجهاد يُقهقِرُ الأبطالا - إنَّ النحافة في الوغى محمودةٌ ** والكِرْشُ ذُمَّ حقيقةً ومقالا - إذ صاحبُ الكرش ِ العظيم ِ لُعابُه ** إنْ أبصرَ الأكلَ المُنمَّقَ سالا = = = = = • هَبْ أنَّ ما حدَّثتني به واقعٌ ** ما ضرَّه لو