التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فرصةٌ أخرى (قصةٌ قصيرةٌ) بقلم أحمد عبد السلام - مصر

فرصةٌ أخرى (قصةٌ قصيرةٌ)
ابتسمت المضيفة الحسناء، وناشدت الجميع بصوت عذب، الالتزام بمقاعدهم، وربط الأحزمة، لمرور الطائرة بمطب هوائي. الأفق الدامي يعلن انسحاب آخر شعاع للشمس، الغروب الجميل لم يستغرق دقائق معدودات، الليل يسدل أولى ستائره السوداء، انطمست التكوينات الطبيعية المبهرة، كما لو كانت لوحة عبقرية اندلقت عليها محبرة سوداء، ألقت نظرة خاطفة على الركاب حولها، معظمهم نائم، قلة منهم تتابع الفيلم المعروض، استرخت في مقعدها في انتظار توزيع وجبة الطعام. فجأة تشوشت الصورة وانقطع الصوت.
أمعنت النظر خلال الدخان الكثيف، ثمة صور لأشباح مجهولة تهرول هنا وهناك، أصوات مبهمة، آلام هائلة تنهش عنقها وكتفيها، سائل لزج ينحدر من رأسها، ويغطي وجهها، تحاملت حتى تمكنت من الوقوف، ترنحت عدة خطوات ثم هوت، سقطت من شاهق، جاهدت كي لا تفقد الوعي، الماء يحيط بها من كل جانب، سبحت زمنًا طويلًا، عضات خاطفة تدغدغ أطرافها، ثمة رف بلاستيكي طافٍ بالقرب منها، اعتلته وتمددت عليه منهكة، ألسنة لهب على البعد، آهات واستغاثات متقطعة، لطمات مائية هائلة تغمرها، ثم تنحسر عنها، عشرات الزعانف المشرعة تدور حولها، تظهر على وميض ألسنة اللهب، ثم تختفي، صوت الرياح يصفر في أذنيها لحنًا جنائزيًّا، ينتفض جسدها من شدة البرد والرعب، تمنت لو كانت الآن في بيتها، على فراشها، بجوار المدفأة، وفي يدها كوب الحليب الساخن، تناوبت على ناظريها أطيافٌ عدة، هذان أبواها اللذان لم تقر أعينهما بها، أغضبتهما لتتزوج حبيب القلب، الذي طلقها بعد سنة واحدة، أختها الصغرى التي طالما قست عليها، وعاملتها بأثرة لا حدود لها، طفلها الرضيع الذي تركته راضية لأهل الزوج السابق، لئلا تفلت فرصة زواج آخر، زميلاتها في الجامعة اللاتي تعالت عليهن، ولم تحسن صحبتهن، الخادم المسكينة التي استعبدتها، وأذاقتها الأمرين، آهٍ لو تُمنح فرصة أخرى لإصلاح ما أفسدته يداها!
التقمها فم هائل، سبح مدة وهي عالقة بجوفه، لفظها على الرمال الباردة، ثعبان مروع يزحف نحوها حثيثًا، عيناه تلمعان بوحشية، ولسانه المشقوق يتحرك حركات سريعة، فحيحه يخلع القلوب، يدنو حتى يصبح قاب قوسين منها، ينقض عليه جارح ضخم، برق يلمع وصواعق تضرب، هزيم رعد، مطر كالسيول، ريح صرصر عاتية، سيوف مصلتة، رماح مشرعة، صهيل خيول، صيحات جنود هنا وهناك، طلقات رصاص متفرقة، أنات جرحى وشهقات احتضار، فرسان ملثمون، كر وفر، تحاول النجاة، قدماها لا تطاوعانها، كأنما ثبتتا في الأرض بمغناطيس هائل، يخطفها مارد آلي، تقاوم، تلكم بقبضتيها، تخمش وجهه، تتكسر أظافرها على جسده المعدني الأملس، يضع في فكها لجامًا، ويجرها خلفه، طعم الحديد البارد يقبض معدتها، تنتفض بشدة، تلتقط أذناها لغطًا، ثمة رائحة عطر نفاذ، مرت نوبة السكر بسلام، من بعيد جاءها صوت المضيفة الباسمة: الرجاء من جميع السادة الركاب الالتزام بمقاعدهم، وربط الأحزمة، لمرور الطائرة بمطب هوائي، على الشاشة التقطت عيناها آليًا متمردًا يجرُّ امرأة حسناء في فمها لجام حديدي.
أحمد عبد السلام - مصر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلة فى أعماق شاعر : الشاعر إيليا أبو ماضى بقلم محسن الوردانى

الشاعر اللبنانى إيليا أبو ماضى أحد أبرز شعراء المهجر فى القرن العشرين جاء إلى مصر عام 1902 بهدف التجارة والتقى بالكاتب اللبنانى انطوان جميل ودعاه انطوان للكتابة فى مجلة الزهور فبدأ فى نشر قصائد بالمجلة . صدر له عام 1911 ديوان      تذكار الماضى هاجر عام 1912 الولايات المتحدة وأسس الرابطة القلمية  مع جبران خليل جبران وميخائيل نعمه توفى سنة 1957 يقول ايليا أبو ماضى فى قصيدته ليس السر في السنوات قل للذي أحصى السنين مفاخرا     يا صاح ليس السرّ في السنوات لكنه في المرء كيف يعيشها     في يقظة ، أم في عميق سبات قم عدّ آلاف السنين على الحصى     أتعدّ شبة فضيلة لحصاة؟ خير من الفلوات ، لا حدّ لها ،     روض أغنّ يقاس بالخطوات كن زهرة ، أو نغمة في زهرة،     فالمجد للأزهار والنغمات تمشي الشهور على الورود ضحوكة     وتنام في الأشواك مكتئبات وتموت ذي للعقم قبل مماتها     وتعيش تلك الدهر في ساعات تحصى على أهل الحياة دقائق     والدهر لا يحصى على الأموات ألعمر ، إلاّ بالمآثر، فارغ                       كالبيت مهجورا وكالمومات جعل السنين مجيدة وجميلة     ما في مطاويها من الحسنات وهنا يتحدث إيليا ابو ماضى

ترجمة تلخيص مسرحية تاجر البندقيه * مع تحليل نقدى لابعاد المسرحيه بقلم د/ طارق رضوان

* ترجمة تلخيص مسرحية تاجر البندقيه * مع تحليل نقدى لابعاد المسرحيه بقلم د/ طارق رضوان في مدينة فينيسا "البندقية" بإيطاليا، كان اليهودي الجشع"شيلوك" قد جمع ثروة طائلة من المال الحرام..فقد كان يقرض الناس بالربا الفاحش..وكانت مدينة البندقية في ذلك الوقت من أشهر المدن التجارية، ويعيش فيها تجار كثيرون من المسيحيين..من بينهم تاجر شاب اسمه"انطونيو". كان "انطونيو"ذا قلب طيب كريم..وكان لا يبخل على كل من يلجأ إليه للاقتراض دون ان يحصل من المقترض على ربا او فائدة.لذلك فقد كان اليهودي "شيلوك"يكرهه ويضمر له الشر بالرغم مما كان بيديه له من نفاق واحترام مفتعل. وفي اي مكان كان يلتقي فيه "انطونيو"و"شيلوك"كان "انطونيو"يعنفه ويوبخه، بل ويبصق عليه ويتهمه بقسوة القلب والاستغلال.وكان اليهودي يتحمل هذه المهانه، وفي الوقت نفسه كان يتحين أيه فرصة تسنح له للانتقام من "انطونيو". وكان جميع اهالي "البندقية"يحبون "انطونيو" ويحترمونه لما عرف عنه من كرم وشجاعة ،كما كان له أصدقاء كثي

قصيدة (الكِرْش.. بين مدح وذمّ!)

• الكِرْشُ مفخرةُ الرجالِ، سَمَوْا به ** وتوسَّدوه، ووسَّدوه عيالا • خِلٌّ وفيٌّ لا يخونُ خليلَهُ ** في الدرب تُبصِرُ صورةً وخيالا = = = = = - الكِرْشُ شيءٌ يا صديقُ مُقزِّزٌ ** وصف البهائم، لا تكنْ دجَّالا! - وكـ "واو" عمرٍو للصديق ملازمٌ ** قد أورَثَ الخِلَّ الوفيَّ ملالا! = = = = = • يا صاح ِ، إنّي قد رضيتُ مشورةً ** إنّ المشورة ليس تعدلُ مالا • مَن للعيال مُداعِبٌ ومُؤانِسٌ ** مَن غيرُه سيُأرجِحُ الأطفالا؟ • مَن لـ "المدام" إذا الوسادُ تحجَّرتْ ** يحنو عليها خِفَّةً ودلالا؟ • مَن للطعام إذا ملأتم سُفْرةً ** حمَلَ البقيَّةَ فوقه، ما مالا؟ • مَن تستعينُ به لإطرابِ الألى ** غنَّوْا، وطبَّلَ راقصًا ميَّالا؟ = = = = = - أضحكتني؛ إذ كان قولُك ماجنًا ** وظهرتَ لي مُتهتِّكًا مُحتالا! - لكنَّه عند التحقُّق عائقٌ ** وقتَ الجهاد يُقهقِرُ الأبطالا - إنَّ النحافة في الوغى محمودةٌ ** والكِرْشُ ذُمَّ حقيقةً ومقالا - إذ صاحبُ الكرش ِ العظيم ِ لُعابُه ** إنْ أبصرَ الأكلَ المُنمَّقَ سالا = = = = = • هَبْ أنَّ ما حدَّثتني به واقعٌ ** ما ضرَّه لو