فرصةٌ أخرى (قصةٌ قصيرةٌ)
ابتسمت المضيفة الحسناء، وناشدت الجميع بصوت عذب، الالتزام بمقاعدهم، وربط الأحزمة، لمرور الطائرة بمطب هوائي. الأفق الدامي يعلن انسحاب آخر شعاع للشمس، الغروب الجميل لم يستغرق دقائق معدودات، الليل يسدل أولى ستائره السوداء، انطمست التكوينات الطبيعية المبهرة، كما لو كانت لوحة عبقرية اندلقت عليها محبرة سوداء، ألقت نظرة خاطفة على الركاب حولها، معظمهم نائم، قلة منهم تتابع الفيلم المعروض، استرخت في مقعدها في انتظار توزيع وجبة الطعام. فجأة تشوشت الصورة وانقطع الصوت.
أمعنت النظر خلال الدخان الكثيف، ثمة صور لأشباح مجهولة تهرول هنا وهناك، أصوات مبهمة، آلام هائلة تنهش عنقها وكتفيها، سائل لزج ينحدر من رأسها، ويغطي وجهها، تحاملت حتى تمكنت من الوقوف، ترنحت عدة خطوات ثم هوت، سقطت من شاهق، جاهدت كي لا تفقد الوعي، الماء يحيط بها من كل جانب، سبحت زمنًا طويلًا، عضات خاطفة تدغدغ أطرافها، ثمة رف بلاستيكي طافٍ بالقرب منها، اعتلته وتمددت عليه منهكة، ألسنة لهب على البعد، آهات واستغاثات متقطعة، لطمات مائية هائلة تغمرها، ثم تنحسر عنها، عشرات الزعانف المشرعة تدور حولها، تظهر على وميض ألسنة اللهب، ثم تختفي، صوت الرياح يصفر في أذنيها لحنًا جنائزيًّا، ينتفض جسدها من شدة البرد والرعب، تمنت لو كانت الآن في بيتها، على فراشها، بجوار المدفأة، وفي يدها كوب الحليب الساخن، تناوبت على ناظريها أطيافٌ عدة، هذان أبواها اللذان لم تقر أعينهما بها، أغضبتهما لتتزوج حبيب القلب، الذي طلقها بعد سنة واحدة، أختها الصغرى التي طالما قست عليها، وعاملتها بأثرة لا حدود لها، طفلها الرضيع الذي تركته راضية لأهل الزوج السابق، لئلا تفلت فرصة زواج آخر، زميلاتها في الجامعة اللاتي تعالت عليهن، ولم تحسن صحبتهن، الخادم المسكينة التي استعبدتها، وأذاقتها الأمرين، آهٍ لو تُمنح فرصة أخرى لإصلاح ما أفسدته يداها!
التقمها فم هائل، سبح مدة وهي عالقة بجوفه، لفظها على الرمال الباردة، ثعبان مروع يزحف نحوها حثيثًا، عيناه تلمعان بوحشية، ولسانه المشقوق يتحرك حركات سريعة، فحيحه يخلع القلوب، يدنو حتى يصبح قاب قوسين منها، ينقض عليه جارح ضخم، برق يلمع وصواعق تضرب، هزيم رعد، مطر كالسيول، ريح صرصر عاتية، سيوف مصلتة، رماح مشرعة، صهيل خيول، صيحات جنود هنا وهناك، طلقات رصاص متفرقة، أنات جرحى وشهقات احتضار، فرسان ملثمون، كر وفر، تحاول النجاة، قدماها لا تطاوعانها، كأنما ثبتتا في الأرض بمغناطيس هائل، يخطفها مارد آلي، تقاوم، تلكم بقبضتيها، تخمش وجهه، تتكسر أظافرها على جسده المعدني الأملس، يضع في فكها لجامًا، ويجرها خلفه، طعم الحديد البارد يقبض معدتها، تنتفض بشدة، تلتقط أذناها لغطًا، ثمة رائحة عطر نفاذ، مرت نوبة السكر بسلام، من بعيد جاءها صوت المضيفة الباسمة: الرجاء من جميع السادة الركاب الالتزام بمقاعدهم، وربط الأحزمة، لمرور الطائرة بمطب هوائي، على الشاشة التقطت عيناها آليًا متمردًا يجرُّ امرأة حسناء في فمها لجام حديدي.
أحمد عبد السلام - مصر
ابتسمت المضيفة الحسناء، وناشدت الجميع بصوت عذب، الالتزام بمقاعدهم، وربط الأحزمة، لمرور الطائرة بمطب هوائي. الأفق الدامي يعلن انسحاب آخر شعاع للشمس، الغروب الجميل لم يستغرق دقائق معدودات، الليل يسدل أولى ستائره السوداء، انطمست التكوينات الطبيعية المبهرة، كما لو كانت لوحة عبقرية اندلقت عليها محبرة سوداء، ألقت نظرة خاطفة على الركاب حولها، معظمهم نائم، قلة منهم تتابع الفيلم المعروض، استرخت في مقعدها في انتظار توزيع وجبة الطعام. فجأة تشوشت الصورة وانقطع الصوت.
أمعنت النظر خلال الدخان الكثيف، ثمة صور لأشباح مجهولة تهرول هنا وهناك، أصوات مبهمة، آلام هائلة تنهش عنقها وكتفيها، سائل لزج ينحدر من رأسها، ويغطي وجهها، تحاملت حتى تمكنت من الوقوف، ترنحت عدة خطوات ثم هوت، سقطت من شاهق، جاهدت كي لا تفقد الوعي، الماء يحيط بها من كل جانب، سبحت زمنًا طويلًا، عضات خاطفة تدغدغ أطرافها، ثمة رف بلاستيكي طافٍ بالقرب منها، اعتلته وتمددت عليه منهكة، ألسنة لهب على البعد، آهات واستغاثات متقطعة، لطمات مائية هائلة تغمرها، ثم تنحسر عنها، عشرات الزعانف المشرعة تدور حولها، تظهر على وميض ألسنة اللهب، ثم تختفي، صوت الرياح يصفر في أذنيها لحنًا جنائزيًّا، ينتفض جسدها من شدة البرد والرعب، تمنت لو كانت الآن في بيتها، على فراشها، بجوار المدفأة، وفي يدها كوب الحليب الساخن، تناوبت على ناظريها أطيافٌ عدة، هذان أبواها اللذان لم تقر أعينهما بها، أغضبتهما لتتزوج حبيب القلب، الذي طلقها بعد سنة واحدة، أختها الصغرى التي طالما قست عليها، وعاملتها بأثرة لا حدود لها، طفلها الرضيع الذي تركته راضية لأهل الزوج السابق، لئلا تفلت فرصة زواج آخر، زميلاتها في الجامعة اللاتي تعالت عليهن، ولم تحسن صحبتهن، الخادم المسكينة التي استعبدتها، وأذاقتها الأمرين، آهٍ لو تُمنح فرصة أخرى لإصلاح ما أفسدته يداها!
التقمها فم هائل، سبح مدة وهي عالقة بجوفه، لفظها على الرمال الباردة، ثعبان مروع يزحف نحوها حثيثًا، عيناه تلمعان بوحشية، ولسانه المشقوق يتحرك حركات سريعة، فحيحه يخلع القلوب، يدنو حتى يصبح قاب قوسين منها، ينقض عليه جارح ضخم، برق يلمع وصواعق تضرب، هزيم رعد، مطر كالسيول، ريح صرصر عاتية، سيوف مصلتة، رماح مشرعة، صهيل خيول، صيحات جنود هنا وهناك، طلقات رصاص متفرقة، أنات جرحى وشهقات احتضار، فرسان ملثمون، كر وفر، تحاول النجاة، قدماها لا تطاوعانها، كأنما ثبتتا في الأرض بمغناطيس هائل، يخطفها مارد آلي، تقاوم، تلكم بقبضتيها، تخمش وجهه، تتكسر أظافرها على جسده المعدني الأملس، يضع في فكها لجامًا، ويجرها خلفه، طعم الحديد البارد يقبض معدتها، تنتفض بشدة، تلتقط أذناها لغطًا، ثمة رائحة عطر نفاذ، مرت نوبة السكر بسلام، من بعيد جاءها صوت المضيفة الباسمة: الرجاء من جميع السادة الركاب الالتزام بمقاعدهم، وربط الأحزمة، لمرور الطائرة بمطب هوائي، على الشاشة التقطت عيناها آليًا متمردًا يجرُّ امرأة حسناء في فمها لجام حديدي.
أحمد عبد السلام - مصر
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك فى موضوعاتنا .