التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الف ليلة وليلة بين الأدب العربى والأدب الغربى بـــقــــلــم د/ طــارق رضـــــــــوان



الف ليلة وليلة بين الأدب العربى والأدب الغربى

بـــقــــلــم د/ طــارق رضـــــــــوان

من المعروف أن المستشرق الفرنسي "أنطون غالان" قام لأوّل مرّة في تاريخ أوروبا الأدبي - بترجمة "ألف ليلة وليلة" إلى اللغة الفرنسية مابين (1704و1717)، في اثني عشر مجلداً، ومن المعروف أيضاً أن هذه الترجمة نالت نجاحاً فورياً باهراً وراجت في كل أنحاء أوروبا: تنافست عليها دور النشر في كل مكان. وظلت مدى قرن كامل الترجمة الوحيدة التي عرفت بها العالم الغربي "ليالي شهرزاد".
قد يبدو غريباً أن تنال "الليالي" هذا النجاح الفوري الباهر في عصر سادت فيه النزعة العقلانية ومفاهيم الكلاسيكية، واشتد الصراع فيه بين القديم والجديد...
وما علاقة "الليالي" العربية بالكلاسيكية الجديدة؟ ولم حازت حكايات شهرزاد على إعجاب جمهور القراء الفرنسيين؟ ماهي أهمّ التغيّرات الأدبية والفكرية التي شهدها القرن الثامن عشر في فرنسا؟ ولم اهتم المفكّرون والكتاب بكلّ ماهو شرقي في هذه الفترة من تاريخ فرنسا السياسي والأدبي؟
لقد أصبحت الحريّة مطلوبة في كل الميادين، وانتشرت المفاهيم الجديدة في كل أنحاء فرنسا بسرعة مذهلة، واستطاع فلاسفة التنوير أن يحققوا أهم أهدافهم التي خططوا لها بدقةولم يعد إطار الأدب الكلاسيكي الضّيق لينسجم مع النفس الحديثة البعيدة الآفاق، ولم تعد الديانة تقدّم لهذه النفس غذاء كافياً.

يمكن القول، إذن، إنّ الأدب الكلاسيكي - المبجّل للتراث، والبعيد، كل البعد عن الفئات الشعبية- بدأ ينهار، خلال هذه الفترة، نتيجة للصراع الاجتماعي- الفكري، وظهور جمهور جديد من الكتاب والقرّاء مستقل -نوعاً ما- عن القيم القديمة. وهذا يعني أنّ الفرنسيين سئموا هذه الكلاسيكية التي خدمت دوماً تطلعات الأرستقراطيين وتمحورت حول قواعد ثابتة لاتقبل المناقشة
في خضم هذه التحولات ترجم أنطون غالان "الليالي" إلى اللغة الفرنسية. تحوّلت إلى مصدر خصب للخيال الفرنسي، متيحة للكتاب والقراء سبيل الهروب إلى عوالم جديدة متحرّرة من كآبة الكلاسيكية، وهذا يعني أنّ حكايات شهرزاد استطاعت أن تصمد أمام روح العصر وأن تصبح العمل المفضل لدى مفكّري العصر من أمثال فولتير وديدرو ومونتيسكيو، فهي غنية بمواضيعها الإنسانية وغزيرة بمادتها الروائية، فضلاً عن أنّها ترمي إلى غايات أخلاقية وتربوية

نتائج الترجمة:
أحرزت، إذن، ترجمة أنطون غالان نجاحاً كاسحاً، وما لبثت أن ترجمت إلى العديد من اللغات الأجنبية، بل راجت في أوروبا رواج الأوديسة والإنيادة واحتلت مكانة ممتازة في الأدب العالمي. ترجمت "ألف ليلة وليلة" إلى مختلف اللغات الأوروبية، وعدّ هذا الحدث بين أكبر الأحداث الثقافية في الغرب. يبدو واضحاً أن ترجمات "ألف ليلة وليلة" أثارت في نفوس الأوروبيين شغفاً بجمع آدابهم الشعبية وتصنيفها في مجموعات مستقلة، ثم طبعها ونشرها بين الناس". يمكن القول، إذن، إن اعتناء الأوروبيين بجمع آدابهم الشعبية -بعد ترجمة "الليالي"- قد فاق كل تصوّر، لإدراكهم مدى أهميّة هذه الآداب في حياة الشعوب. فلم تبق دولة أوروبية لم تعن بجمع حكاياتها الشعبية من أفواه العجائز والريفيين وتصنيفها في مجموعات.

الرغبة في معرفة الشرق:
لقد ألهبت حكايات شهرزاد خيال القراء الأوروبيين وتركتهم يحلمون بأجوائها الدّافئة. ولعلّ من مظاهر أثرها الفعّال ما اعترف به الغربيون أنفسهم من عظيم مكانتها عندهم... فلقد وصف أويسترب أهميتها بقوله.

"فيما عدا الكتاب المقدّس لا توجد سوى كتب قليلة حققت انتشاراً واسعاً وطافت العالم بأرجائه مثل مجموعة "ألف ليلة وليلة"... لأنّه يكاد لا يوجد في معظم الدول المتقدّمة من لم يقرأ هذه المجموعة بسرور مرّة واحدة على الأقلّ في حياته... ويكفي أن نلقي نظرة في كتاب جان ماري كاري لنطلع على عدد الكتاب والمسافرين المتزايد، الذين زاروا الشرق الإسلامي، في القرن الثامن عشر، واعترفوا أن مدن "الليالي" كانت من أهمّ العوامل التي دفعتهم إلى القيام بهذه الأسفار، على الرغم من التكاليف المالية الباهظة.
أّمّا في بداية القرن السابع عشر، فلقد بدأ الغرب يقترب تدريجياً من الشرق الإسلامي لأسباب سياسية واقتصادية ويبدو أن الأوروبيين، في هذه الفترة، أدركوا أن الأتراك أصبحوا خطراً سياسيّاً وعسكريّاً قادراً على تهديدهم، لذلك أسرعوا إلى إقامة صلات معهم...ولقد شرعت فرنسا -فعلاً- ترسل دبلوماسييها ومبعوثيها إلى الشرق الإسلامي،وكانت في الوقت نفسه، تستقبل سفراء الدولة العثمانية، ومبعوثيها، وتبني لهم سفارات ضخمة تشمل أحياء كاملة أحياناً...
وعلى الرغم من هذه الاتصالات السياسية المكثفة، بقي عدد المسافرين الأوروبيين إلى الشرق الإسلامي -خلال النصف الأول من القرن السابع عشر -ضئيلاً. ولم تخرج غايات هؤلاء المسافرين ..... وأغراضهم عن النقاط التالية: التبشير والتنقيبات الأثرية، السياحة والمغامرات، الانتداب لأغراض عسكرية أو تجارية... وكانت أخبار السيّاح والفنيين والمبشرين وأوصافهم التي ينقلونها إلى بلادهم عند العودة ناقصة، تعوزها القدرة على الوصف الصادق، وفيها نوع من التحيز والتحامل أحياناً... لهذا كلّه، ظلّت صورة الشرق الإسلامي، في الذهنية الأوروبية، مشوّهة وغير مكتملة ومزخرفة -دائماً- بعنصري السحروالعجائب.
لقد كان على الأوروبيين انتظار منتصف القرن السابع عشر لتبدأ صفحة جديدة في تاريخ علاقاتهم بالشرق. ففي هذه الفترة ظهرت الشركات الشرقية التي أسسها الوزير الفرنسي المشهور كولبير (1619-1683)، ونشطت البعثات الكاثوليكية التبشيرية، وتمّ التبادل الدبلوماسي والاقتصادي بين أوروبا وتركيا على مستوى رفيع... وفي المجال الفنّي، بدأت المواضيع الغرائبية تتسرب إلى الرسم والأدب، ففي عام 1670 كتب موليير مسرحيته الشرقية "البورجوازي المهذب"، التي تدور أحداثها في تركيا... وفي عام (1672) ألف راسين مسرحيته "بجزيت" باذلاً جهداً كبيراً في إغنائها بالتفاصيل الشرقية...".

ومن الملاحظ أنّ عدد الرحالة الأوروبيين إلى الشرق الإسلامي -في هذه الفترة- بدأ يرتفع نسبيّاً... وكان الوزير كولبير نفسه يشجع أصدقاءه والمهتمين على القيام برحلات إلى الدول العربية والإسلامية، بل إنّ أنطون غالان نفسه كان موفداً من طرف هذا الوزير حتّى يجمع له التحف والمخطوطات النادرة من تركيا والشام وغيرهمامن بلاد الشرق. لقد لعبت ترجمات "الليالي" إلى اللغات الأوروبية دوراً مهمّاً وخطيراً في تاريخ العلاقات الغربية - الشرقية وفي تاريخ الأدب العالمي. ولسنا نبالغ إذا قلنا مع الباحثة سهير القلماوي "إن ألف ليلة وليلة كانت الحافز الأهمّ لعناية الغرب بالشرق عناية تتعدّى النواحي الاستعمارية والتجارية والسياسية... وإن انتشار حركة الاستشراق يعود إلى ماتركه هذا الأثر في نفوس الغربيين...."

التأثير في الأدب الأوروبي:
كان من نتائج ترجمات "الليالي" أن أثرت تأثيراً واضحاً في الأعمال الأدبية الغربيّة الكبرى. فلقد أصبح العديد من الكتاب الأوروبيين "يتجهون إلى هذا الأثر الفني، وإلى تعبيرات خاصة به، وصور مأثورة عنه، كلما أرادوا أن يفصلوا في أدبهم كلاماً عن السحر الخارق أو البذخ الشرقي..."(20)... وهكذا انتشرت، في الأدب الغربي، اللقطات الرائعة والكليشات المشهورة: طير الرخّ، جبال المغناطيس، مدينة النحاس، القصور الذهبية، بساط الريح، خاتم سليمان.
أثر "ألف ليلة وليلة" الشفوي:

هل عرف الغرب حكايات شهرزاد قبل ترجمتها إلى اللغات الأوروبية؟ وهل كان لهذه الحكايات أثر في الأدب الأوروبي قبل القرن الثامن عشر؟
إنّ المتخصصين لا يستبعدون إمكانية تلقي الأوروبيين لحكايات "الليالي" قبل ظهور ترجمة غالان عدّة
قرون. ففي رأيهم، إنّ العدّيد من الحكايات الشرقية والعربية قد نقلت، بطريق الشفاه، إلى بقاع واسعة
من أوروبا... وقد حدث ذلك في عصر كانت فيه أوروبا لا تكاد تعرف السفر إلاّ بقصد الحج إلى الأراضي المقدسة. والواقع، إن انتقال مجموعة من حكايات "الليالي" إلى أوروبا عن طريق الرواية أمر طبيعي.
ولا يستبعد أن تكون الأندلس وصقيلية وجنوب إيطاليا، التي تمّ فيها اتصال مباشر بين العرب والمسيحيين قد عرفت حكايات من "الليالي"؛ فمن المعروف أن التراث العربي-الإسلامي انتقل إلى أوروبا. عبر هذه الجسور، وأخذ دوره هناك في حركة الإحياء التي بدأ بها تاريخ النهضة في أوروبا... يبدو أنّ "رحلات السندباد البحري" ترجمت إلى العبرية بعنوان "مشلية سندباد"... وقد ترجمت إلى اللاتينية ترجمة لا تزال محفوظة في العديد من المخطوطات..."

هوامش ومراجع:
7- فيليب فان تيغم، المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا، ترجمة: فريد أنطونيوس، لبنان، دار عويدات،
1975، ص 129.

8- كاترينا مومسن، جوته وألف ليلة وليلة، ترجمة أحمد حمو، دمشق، وزارة التعليم العالي، 1980،
تافرني: رحالة فرنسي مشهور، استطاع- مابين (1630) و(1639)، في رحلات ستة أن يطوف أكثر بلاد آسيا، وعاد منها بمعلومات غزيرة ضمنها كتابه "الرحلات".

16- شاردان: رحالة فرنسي، صاحب كتاب "رحلات إلى الهند وفارس".

17- برنيي: طبيب ورحالة فرنسي، اشتغل بالطب 12 عاماً مع أورنجزيت كبير المغول...

18- مكسيم رودنسن، الصورة الغربية والدراسات الغربية الإسلامية في "تراث الإسلام" تصنيف شاخت وبوزت، ترجمة حسين مؤنس، الكويت، عالم المعرفة، 1978، ص 64.

19- سهير القلماوي، ألف ليلة وليلة، القاهرة، القاهرة، دار المعارف، ص 64.

مجلة الضياء - رئيس التحرير محسن الوردانى

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلة فى أعماق شاعر : الشاعر إيليا أبو ماضى بقلم محسن الوردانى

الشاعر اللبنانى إيليا أبو ماضى أحد أبرز شعراء المهجر فى القرن العشرين جاء إلى مصر عام 1902 بهدف التجارة والتقى بالكاتب اللبنانى انطوان جميل ودعاه انطوان للكتابة فى مجلة الزهور فبدأ فى نشر قصائد بالمجلة . صدر له عام 1911 ديوان      تذكار الماضى هاجر عام 1912 الولايات المتحدة وأسس الرابطة القلمية  مع جبران خليل جبران وميخائيل نعمه توفى سنة 1957 يقول ايليا أبو ماضى فى قصيدته ليس السر في السنوات قل للذي أحصى السنين مفاخرا     يا صاح ليس السرّ في السنوات لكنه في المرء كيف يعيشها     في يقظة ، أم في عميق سبات قم عدّ آلاف السنين على الحصى     أتعدّ شبة فضيلة لحصاة؟ خير من الفلوات ، لا حدّ لها ،     روض أغنّ يقاس بالخطوات كن زهرة ، أو نغمة في زهرة،     فالمجد للأزهار والنغمات تمشي الشهور على الورود ضحوكة     وتنام في الأشواك مكتئبات وتموت ذي للعقم قبل مماتها     وتعيش تلك الدهر في ساعات تحصى على أهل الحياة دقائق     والدهر لا يحصى على الأموات ألعمر ، إلاّ بالمآثر، فارغ                       كالبيت مهجورا وكالمومات جعل السنين مجيدة وجميلة     ما في مطاويها من الحسنات وهنا يتحدث إيليا ابو ماضى

ترجمة تلخيص مسرحية تاجر البندقيه * مع تحليل نقدى لابعاد المسرحيه بقلم د/ طارق رضوان

* ترجمة تلخيص مسرحية تاجر البندقيه * مع تحليل نقدى لابعاد المسرحيه بقلم د/ طارق رضوان في مدينة فينيسا "البندقية" بإيطاليا، كان اليهودي الجشع"شيلوك" قد جمع ثروة طائلة من المال الحرام..فقد كان يقرض الناس بالربا الفاحش..وكانت مدينة البندقية في ذلك الوقت من أشهر المدن التجارية، ويعيش فيها تجار كثيرون من المسيحيين..من بينهم تاجر شاب اسمه"انطونيو". كان "انطونيو"ذا قلب طيب كريم..وكان لا يبخل على كل من يلجأ إليه للاقتراض دون ان يحصل من المقترض على ربا او فائدة.لذلك فقد كان اليهودي "شيلوك"يكرهه ويضمر له الشر بالرغم مما كان بيديه له من نفاق واحترام مفتعل. وفي اي مكان كان يلتقي فيه "انطونيو"و"شيلوك"كان "انطونيو"يعنفه ويوبخه، بل ويبصق عليه ويتهمه بقسوة القلب والاستغلال.وكان اليهودي يتحمل هذه المهانه، وفي الوقت نفسه كان يتحين أيه فرصة تسنح له للانتقام من "انطونيو". وكان جميع اهالي "البندقية"يحبون "انطونيو" ويحترمونه لما عرف عنه من كرم وشجاعة ،كما كان له أصدقاء كثي

قصيدة (الكِرْش.. بين مدح وذمّ!)

• الكِرْشُ مفخرةُ الرجالِ، سَمَوْا به ** وتوسَّدوه، ووسَّدوه عيالا • خِلٌّ وفيٌّ لا يخونُ خليلَهُ ** في الدرب تُبصِرُ صورةً وخيالا = = = = = - الكِرْشُ شيءٌ يا صديقُ مُقزِّزٌ ** وصف البهائم، لا تكنْ دجَّالا! - وكـ "واو" عمرٍو للصديق ملازمٌ ** قد أورَثَ الخِلَّ الوفيَّ ملالا! = = = = = • يا صاح ِ، إنّي قد رضيتُ مشورةً ** إنّ المشورة ليس تعدلُ مالا • مَن للعيال مُداعِبٌ ومُؤانِسٌ ** مَن غيرُه سيُأرجِحُ الأطفالا؟ • مَن لـ "المدام" إذا الوسادُ تحجَّرتْ ** يحنو عليها خِفَّةً ودلالا؟ • مَن للطعام إذا ملأتم سُفْرةً ** حمَلَ البقيَّةَ فوقه، ما مالا؟ • مَن تستعينُ به لإطرابِ الألى ** غنَّوْا، وطبَّلَ راقصًا ميَّالا؟ = = = = = - أضحكتني؛ إذ كان قولُك ماجنًا ** وظهرتَ لي مُتهتِّكًا مُحتالا! - لكنَّه عند التحقُّق عائقٌ ** وقتَ الجهاد يُقهقِرُ الأبطالا - إنَّ النحافة في الوغى محمودةٌ ** والكِرْشُ ذُمَّ حقيقةً ومقالا - إذ صاحبُ الكرش ِ العظيم ِ لُعابُه ** إنْ أبصرَ الأكلَ المُنمَّقَ سالا = = = = = • هَبْ أنَّ ما حدَّثتني به واقعٌ ** ما ضرَّه لو