قصة قصيرة بعنوان:
الحُب الحقيقيُ احتراقٌ
في صباح يُجبرُ على التفاؤل به لقلّة الخيارات، قاصدون لمقاصدَ مُتباينةٍ، يقفون عند نُقطةِ انتظارٍ واحدةٍ، عيونهم مُتسمّرة تكاد تفك شفْرةَ السرابِ للتأكّد من قدوم الباص أو عدمه. لا يحتاج من في آخر الصف إلى الاستفهام عن قدومه، فهرولة المنتظرين والتزاحم كفيلان بأنْ يُعلمان الضرير بما يحدث.
امرأةٌ عجوز يكاد الجميع يحسدها، حتى تلك العشرينية التي تستغرق ساعات من الوقت لترتيب زينتها، لكون احترام الكبير شيئاً لا يُنكرُ في مجتمعاتنا الشرقية، لذا سيكون مقعدها محجوزاً سلفاً.
وبعد غربلة الموقف وصعود عدد من المُحاربينَ إلى داخل الباص، اكتفى الكثير منهم بالوقوف على أمل أنْ ينالوا نصيباً مما نالتهُ الجدّةُ من أحد الشباب، حين منحها مكانهُ ممتناً لعنفوان شبابه، لتبدأ بإزعاج رجلٍ خمسيني جالس بجانب مقعدها، حين أقحمتْ رأسهُ بتفاصيلَ لماضيِ أجيالٍ قد أكل الزمان عليها وشرب، حتى استوقفتها عبارةٌ قالها الخمسيني، لتبدأ رحلة أخرى من الحديث قسري الإصغاء:
- هل قُلتَ إنَّ الناس - الآن - يمتازون عن الماضي بأنهم يُحبون بحريةٍ أكبرَ وتضحيةٍ أصدقَ؟؟!
- نعم.. ففي السابق كان الحُب وقصص الغرام تقتصر على أبيات قصائد الغزل أو لقطات فيلم يُعرض على شاشات دور السينما.
قالت وهي ترفعُ حاجبيها بتركيز يمتزج بدهشة من كلام الخمسيني:
- والآن؟؟
- الآن أصبح الحُب سبباً عميقاً لإيجاد العذر لمن يتخبّط في حياتهِ تائهاً باحثاً عن سبيل ليجتمع بمن أحبه وللتضحية بالغالي والنفيس من أجله.
- يا ولدي! قديماً كان الحُب احتراماً وتضحية. فكم من امرأة مُدللة عند أهلِها تجرّعتْ المُرَّ والويل لأجلِ زوجها، وكم من فارس ترجّلَ عن مُهرته طلباً للقمة عيشٍ كريمة لأهلهِ.
ابتسم الخمسيني من مُقارنات الجدّة، وكأنَّ الفارقَ بينهما مائة عام من التفكير والقناعة، ثم راح يتبجّح متفاخراً بحب حياتهِ - كما اسماها - حين قال:
- وأنا لدي تلكَ المُحبِّةُ التي تعشقُني بجنون، والتي ينقطع توالي نفسُها إنْ غبتُ عنها، لذلكَ سأُسافرُ إليها لنبدأ حياتنا سويةً ولنكمل ما فاتنا من عمرينا.
- هل قلتَ: أُسافر؟!
عقدتْ حاجبيها مُستفهمةً:
- وفي أي أرضٍ غُرِسَتْ وردتك؟
أجابها بابتسامة عريضة:
- في (احدى الدول العربية).
ثم استأنف قائلاً:
- أرضُ العراق محرقةٌ - كما تعلمين - وحبيبتي تخاف العيش فيها لذا سأحلِّقُ بجناحَي العشقِ إليها.
قالت وهي مُندهشة من تخطي قطار عمره محطات الحكمة من دون أنْ ينال منها نصيباً:
- أوليس الحبُ والعشقُ تضحيةً؟!
قال وبانتشاء مفضوح:
- بلى..إنه كذلك.
استأنفتْ باستفهام:
- إذن أين تضحيتها في حبها لكَ، وقد رفضتْ الاحتراق معكَ في أرضك؟!!
هند العميد / العراق/٣/٧/٢٠١٧
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك فى موضوعاتنا .