نشر فى مجلة كوكب الشرق
١٥ مارس ١٩٣٣
وكانت الحياة من حولنا قد أخذت تهدأ وتستقرُّ، فانقضت الحرب بالمدافع وما إليها من أدوات التدمير والإهلاك، واضطربت حرب الألسنة والأقلام حول معاهدات الصلح ونظم السلام، وكانت الأمم من حولنا قد أَمِنت على ما بقي من نفوسها ودمائها، لكنه أمن مضطرب شديد القلق، فيه خوف من أن تُضَاف إلى هزيمة الحرب هزيمة تصلح فتموت الآمال، ويستأثر اليأس بالقلوب، وفيه خوف أن لا يعقب الانتصار في الحرب انتصارًا في السلم، وأن تذهب عبثًا تلك الجهود الهائلة التي بذلتها الأمم المنتصرة من الأنفس والأموال، ومن الأماني والآمال، في سبيل الانتصار الشامل.
وكنا نحن المصريين في هذا كله نعيش عيشة هادئة مطمئنَّة، ولكنها لا تخلو من ذلة وانكسار، كنا مضطربين بين الإنجليز الغاصبين في مصر المنتصرين في أوروبا، والترك الذين كانوا أصحاب السيادة في مصر، وكانوا يتجرعون مرارة الهزيمة في بلادهم، وكنا نودُّ لو نفضنا عن أنفسنا سيادة هؤلاء الاسمية وسلطان أولئك الفعلي وقلنا إننا مصريون فحسب. ولكنا لم نكد نجد إلى هذا سبيلًا.
وكانت الإدارة الفرنسية تراقب الأجانب وتسيء الظن بهم وترسل إليهم من حين إلى حين من رجال الشرطة من يزورهم، ويفتش عن أحوالهم، وتدعوهم من حين إلى حين إلى الأقسام تنظر في أوراقهم، وتسأل عن أعمالهم، ثم تردهم موفورين. ومهما أنسَ فلن أنسى يومًا دعيت فيه إلى القسم لتنظر الشرطة في أوراقي وتسأل عن أعمالي، فلما أخذ المأمور وتحدث إليَّ سألني عن جنسيَّتي قلت: مصري. قال: وإنما أسأل عن تبعيتك، قلت: مصري. قال ما نعرف أن لمصر هذه المنزلة. قلت: فلست أعرف لي تبعية أخرى. ففكَّر قليلًا ثم قال في صوته الفرنسي الضخم وكأنه قد ظفر بشيء غريب: لقد عرفت … أنت رعية مصري، وحماية إنجليزي. وخرجت محزون القلب، منكسر النفس، كاسفَ البال، تدور في رأسي هذه الجملة وكأنها العجلة المحددة الأطراف تمزق ما تدور فيه: «أنت رعية مصري! وحماية إنجليزي!»
ولقيت آخر النهار نفرًا من زملائي المصريين، فأقصُّ عليهم هذه القصة فإذا كلهم قد سُئِلَ هذا السؤال وسمع هذا الحديث! ونحن نُحِسُّ هذا الألم اللاذع الذي تجده القلوب وتعرب عنه الألسنة، وتَعْجِز الأيدي عن أن تدفعه أو تغيره. كذلك كنا في باريس بعد أن أعلنت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها. ولكن أنباءً تصل إلينا من مصر تهتزُّ لها رءوسنا وأكتافنا، فتعرب عن هذا اليأس الحزين الذي يشعر به من يرى الأمل السامي العريض، ويعلم من نفسه العجز عن بلوغه والوصول إليه، وتتَّصِل الأنباء ثم تتصل، وإذا هي كلما اشتد اتصالها اشتدت قوتها، وإذا هي لا تهزُّ الرءوس ولا الأكتاف، وإذا هي لا ترسم على الثغور ابتسامة يسيرة، وتبسط على الجباه نورًا ضئيلًا، ثم تتصل الأنباء وتقوى، فتزداد الابتسامات سعةً وبهجةً، ويزداد نور الحياة جمالًا وإشراقًا، وتنطلق الألسنة بأحاديث قصار تتردد فيها ليت ولو! وتختمها هذه الكلمة الحلوة المرة في مثل ما كنا فيه: من يدري؟
ثم يأتي النبأ العظيم فإذا الابتسام ضحك، وإذا الوجوه كلها إشراق، وإذا السكون حركة، وإذا الجمود نشاط، وإذا نحن سرور كلنا، وابتهاج كلنا، يسعى بعضنا إلى بعض، ماذا أقول؟ يسرع بعضنا إلى بعض، فيقبل بعضنا بعضًا، ويهنئ بعضنا بعضًا، وتجري على هذه الوجوه المشرقة دموع حارة، ولكن في حرارتها برد الأمل والرجاء.
مصر ثائرة، مصر تقاوم الإنجليز، مصر تنهض في وجه أوروبا المنتصرة تطلب إليها البر بالوعد، والوفاء بالعهد. مصر تقدَّم زعماؤها إلى النفي. مصر تعرض صدور أبنائها إلى الرصاص. مصر تخضب أرضها بدماء المصريين. والصحف الفرنسية تنشر هذا بالحروف الضخمة والخط العريض … وتتحدث عن هذا فتوجز وتطيل، ورءوسنا نحن قد ارتفعت كأن لها حاجة في السماء وقد استقامت، تلقى الفرنسيين فتسألهم باسمة: ماذا تقولون في أنباء مصر؟ أو تحتفظ بالصمت عن هذه الأنباء وتدور بالحديث حتى تجره إليها ليبدأ الفرنسي فيقول: حدثني. ماذا تنشر الصحف عن بلادكم؟ إن عندكم لثورة، وما أظن إلا أن سيكون لها خطر، وكنا حينئذ نُفيض في الحديث عن هذه الثورة، ولعل منا من لم يكن يتحرج من المبالغة والإغراق، ثم يصل الوفد إلى باريس وإذا نحن نهرع إليه، ونستمع منه، وإذا نحن لا نسمع منه إلا أحاديث كلها ابتهاج بما كان، وأمل فيما سيكون، وإعجاب بمصر اليوم، وثقة بمصر غد.
رحم اللَّه شهداء سنة ١٩١٩! لقد صغرت حياتهم في نفوسهم، لنكبر نحن في نفوسنا، لقد ماتوا فأحيانَا موتُهم.
رحم اللَّه هؤلاء الشهداء! لم يكن أحد منهم يفكِّر في أحد منا. بل لم يكن أحد منهم يعرف أحدًا منا، إنما كانوا يفكرون في مصر، ويعرفون مصر، ويبذلون نفوسهم في سبيل مصر، وكنا نحن نحيا بهذا كله بل بأنباء هذا كله.
في ذمة اللَّه وفي سبيل الوطن هذه الأرواح الطاهرة الكريمة التي ذهبت فداءً لاستقلال مصر وكرامتها، وشقَّت لها طريقها إلى المجد والعلاء في هذا العصر الحديث؛ فقد اختلفت علينا ظروف الحياة وستختلف علينا ظروف الحياة. لقد لقينا الخير والشر، ووجدنا الرضا والسخط، وسنلقى هذا وذاك، وسنأخذ بحظنا من هذا وذاك، ولكنا ذكرنا دائمًا وسنذكر دائمًا أن هذه الأرواح الطاهرة الكريمة أذاقتنا طعم العزة القومية لأول مرة، وهي التي أنبأتنا فأقنعتنا بأننا نستطيع أن نكون كغيرنا من الناس أعزَّاء كرامًا مستقلين.
شهداء حقًّا هؤلاء الذين ذهبوا في سبيل مصر سنة ١٩١٩، وشهداء حقًّا هؤلاء الذين قَفَوْا آثارهم بعد ذلك، فماتوا كما مات هؤلاء في سبيل الحرية والعزة والاستقلال، هم شهداء لأنهم ضحوا بنفوسهم وآمالهم في سبيل فكرة هي فكرة الاستقلال، وهم شهداء لأنهم اندفعوا إلى هذه التضحية بهذه العاطفة الدينية المقدسة التي لا يقف في سبيلها شيء، والتي لا تتردد في أن تتخذ الأخطار مهما تعظم وسيلة إلى الفوز، ومصعدًا إلى المثل الأعلى.
هم شهداء لأنهم مجهولون، هم شهداء لأنهم مغموطون. ألست ترى أنهم ما يزالون مضطهدين إلى الآن؟ ألست ترى أن السعي إليهم بحذر، وأن التحدث عنهم لا يجب، وأن ذكرهم يخاف منه على النظام؟
هم شهداء يوم لقوا الموت، وهم شهداء يوم تلقى ذكراهم ألوان الاضطهاد. أرواحهم في جنة الخلد، وذكراهم في قلوب المصريين جميعًا. ولئن حيل بين الناس وبين ما يريدون من إقامة هذه الحفلات والمظاهر التي لا تنفع الشهداء أنفسهم، وإنما تنفع الناس لأنها تحيي فيهم هذه العواطف المقدسة، التي يجب على كل حكومة وطنية أن تحياها، عواطف الحب للوطن والتضحية في سبيله، فلن تحول قوة في الأرض بين قلوب الناس وبين إحياء هذه الذكرى. ستعمر قلوب الناس بهؤلاء الشهداء دائمًا، وسيظل هؤلاء الشهداء أمام نفوس الناس دائمًا مُثُلًا عليا لافتداء الوطن بأعز شيء عليهم حتى الحياة.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا رأيك فى موضوعاتنا .